القرطاس والقلم
استغرب أخي وصديقي الكاتب الكبير محمود شقير حينما
علم منّي بأنّني ما زلت أكتب نصوصي الأدبيّة بقلم الحبر وعلى الورق الأبيض غير
المسطّر بل أشفق عليّ حينما أكدّت له بأنّني أعيد كتابة النّصّ مرّتين وربما أكثر،
وأمّا أخي وصديقي الكاتب الكبير يحيى يخلف فلا يترك فرصة تمرّ دون أن يحثّني على
الكتابة بالحاسوب، وأعترف بأنّني حاولت الكتابة بسبّابّتي الا أنّ القلم والقرطاس
عاتباني: ولو...بعد هذه العشرة الطويلة ! فتراجعت.
هناك علاقة دافئة بين الكاتب وبين القلم والقرطاس لا
ترقى إليها مفاتيح الحاسوب وشاشته، ولا مجال للمقارنة بينهما، فالفرق بينهما كما
الفرق بين الشّجرة الخضراء وبين جلمود الصّخر، وهناك أيضا متعة عندما تتدفّق كلمات
النّصّ الأدبيّ من روح المبدع وخياله وقلبه وتتجسّد على الورقة البيضاء، وأنّ يرى
الأسطر والجمل تولد وتتوالد عليها، وأنّ يشاهد بعينيه الكلمات المحذوفة والمشطوبة
والتّعابير المضافة والهوامش والخطوط اللّولبيّة على الورقة التي لا يعرف سرّها
وأصلها سواه.
لست
الكاتب الوحيد الذي بقي وفيّا للقلم والقرطاس فقد كتب أخي الشّاعر الكبير محمود
درويش اثنتين وعشرين مجموعة شعريّة وأحد عشر كتابا نثريّا بقلم الحبر السّائل وعلى
الورق الأبيض، وأمّا الرّوائيّة الأميركيّة الكبيرة توني موريسون الفائزة بجائزة
نوبل للآداب عام 1993 ومؤلفة الرّوايات الرّائعة "نشيد سليمان"
و"جاز" و"محبوبة" وغيرهنّ فتقول في حوار معها "أكتب في
العادة باستخدام قلم الرّصاص".
ويعترف الرّوائيّ اليابانيّ المعروف هاروكي مورا
كامي صاحب روايات "الغابة النّرويجيّة" و"تحت الأرض" و"Q84" في
حوار معه صيف 2004 "أكتب خمس أو ستّ مسودّات فأنا أمضي خمسة أو ستّة أشهر في
كتابة المسوّدة الأولى بينما أمضي سبعة أو ثمانيّة شهور لإعادة الكتابة مرارا ".
وتقول الرّوائيّة البريطانيّة أنتونيا سوزان بَيات
مؤلّفة الروايّة المميّزة "استحواذ" وروايتي "ظلّ الشّمس"
و"اللعبة" في حوار معها في 2001 "لا أزال أكتب باليد رواياتي وأي
موضوع أراه جديّا. لا أميل الى استخدام الكمبيوتر لأننّي ارى الورقة الكاملة التي
أكتب عليها قطعة من حياكة متقنة لا تنفع معها عمليّات القطع والنّسخ cut-and-paste الشّائعة
لأنّني لا أرتاح إلا برؤية الورقة الكاملة. لم أكتب روايّة أبدا دون استخدام القلم
والورقة ". ومن المفارقة أنّها تعترف بكتابة مقالاتها بالكمبيوتر، والسّبب
واضح من إجابتها.
وأمّا الرّوائيّ الأميركيّ بول أوستر مؤلف
"ثلاثيّة نيويورك" وغيرها فيقول في لقاء صحفيّ معه في العام 2003
"اعتدت على الكتابة دوما بيدي مستخدما قلم حبر وأحيانا أستخدم قلم الرّصاص
لإجراء تصحيحات، ولو كان بإمكاني أن أكتب مباشرة على الآلة الكاتبة أو الكمبيوتر
لفعلت لكنّ لوحات المفاتيح تسبّب لي رهبة عظيمة، فلم أكن في يوم ما قادرا على
التّفكير بوضوح وأصابعي موضوعة على لوحة مفاتيح أو أزرار حروف" ويضيف
"القلم أكثر بدائيّة وتشعر معه أنّ الكلمات تنساب من داخل جسدك وأنت تحفر
بوساطة القلم على الورقة التي أمامك" ولكنّ الكاتب البرتغاليّ العالميّ خوسيه
سارماغو صاحب رائعة "العمى" والحاصل على نوبل للآداب عام 1998 يؤكّد على
"أنّ الكتابة على الكمبيوتر أكثر نظافة وراحة وسرعة ولا توجب تغييرا في
الأسلوب مثلما يعتقد البعض" الا أنّه يعترف بحنينه للورقة وارتباطه بها فيضيف
" ثمّة شيء واحد أريد تأكيده: لديّ رابطة قويّة وطبيعيّة مع الورقة المطبوعة،
لذا تراني أطبع كلّ ورقة أنجز كتابتها على الكمبيوتر على حدة ولا أنتظر أكمال
العمل وطباعته دفعة واحدة".
قال أبو الطّيّب المتنبّيّّّ قبل ألف عام تقريبا في
احدى روائعه الخالدة:
الخيل والليل والبيداء تعرفني... والسّيف والرّمح
والقرطاس والقلم
وفي هذه الأيّام يا ابن الحسين التي "لا خيل
ولا ليل ولا بيداء ولا سيف ولا رمح" فيها، لم يبق لنا سوى القرطاس والقلم.
وليعذرني الكمبيوتر والفارة!!
محمد علي طه
No comments:
Post a Comment